إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 10 نوفمبر 2014

أنين سينين

أنين سينين
قصة قصيرة
بقلم : أحمد كمال
لمعت النجوم في السماء كما لم تلمع من قبل ، واقترب القمر البدر ليقبل الأرض ، وحام الطير من كل فج حول هذا البيت ، ولم يعكر صفو هذا الخشوع إلا ضجيج مريض أتى من بعد ، اهتزت منه جدران البيت من ثقل نهم الجنازير للإسفلت وقتلها لكل حبات الرمل حتى توقفت أسفل ربوة يسكنها بيت قديم متهالك لكنه بقى قوي متماسك لم يهدمه الدهر .
توقفت السيارة العسكرية وترجل منها ضابط عظيم بخفة ورشاقة وراح يلوح لبقية آلياته لمحاصرة البيت استعداداً لشيء ما . وإذا بباب البيت ينفتح على مصراعيه ويبدوا من وراءه شيخ يتشح بالأبيض من أم رأسه حتى أصابع قدميه ويتوكأ على عصا كانت تتوكأ عليه . انحنى ظهره من فعل الزمن لكن بقيت قوة لديه . تهللت أسارير الشيخ وراح يرحب بالقوة التي تحاصره قائلاً :
- مرحباً بخير أجناد الأرض .. لقد كنت انتظر مروركم منذ دهر ؟
ففزع القائد وجنوده وتوقف كل شيء ، وراحوا يحتمون بدروع الآليات ويوجهون فوهة المدفعيات صوب هذا الشيخ ، وساد صمت حتى تعجب من رد فعلهم هذا الشيخ ، وجذب الضابط العظيم مكبر الصوت وراح يحذره بصوت جهوري مرتعش :
- أخرج ويدك على رأسك أيها الشيخ ولا تحاول أن تقاوم ، ولا أن تفعل أي شيء !! وإلا سنطلق على جسدك الهزيل الرصاص ولن نبقي منك شيء .
فراح الشيخ يهبط  بخطوات ثابتة نحو القوات وتسبقه عصاه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة بعثت بالطمأنينة على الضابط والجنود فاستحت فوهات البنادق وانحنت مواسير المدافع حتى قال :
- يا ولدي أنا حي أرزق منذ لا أدري من الوقت ولن يؤثر في كل ما قلت !!
فاستغرب الضابط وهو يتبادل نظرات الدهشة مع الجنود إلا إنه بدا من خلف سيارته العسكرية كورقة خس وراح يقترب من الشيخ حتى أصبحا وجها لوجه فسأله قائلاً :
- من أنت أيها الشيخ ؟! فإن القيادة أخبرتني أن هذا البيت مهجور !
فمد الشيخ يده وسلم عليه وبينما يقبض على كف الضابط قال وهو ينظر إليه :
- خدعوك يا ولدي فأنا صاحب هذا البيت !!
ثم دنا برأسه من رأس الضابط حتى تلامست مقدمة أنفيهما والدموع تنساب من عينيه وقال بصوت متقطع خنقه البكاء :
- أنتم ذاهبون لتحرير القدس يا ولدي ؟!
كان الضابط يشتم عطراً من أنفاس هذا الشيخ يملأ رئتاه فتسري في جسده قشعريرة تجعله في نشوة لم يحظ بها من قبل وترقرقت عيناه بالدموع وراح يرد :
- لا يا سيدي نحن لسنا ذاهبون إلى القدس !!
فتراجع حماس الشيخ بعض الشيء ثم استفسر قائلاً :
- ستتوقفون عند بئر السبع ؟! لا بأس .. لا بأس !!
فإغرورقت عينا الضابط بالدموع وراح يرد :
- لا يا سيدي نحن لسنا ذاهبون إلى بئر السبع !!
فتراجع حماس الشيخ بعض الشيء فهز كتفيه وراح يقول :
- آه بالتأكيد ستستعيدون أم الرشراش ، إنها مصرية ولدي الخرائط والوثائق والرفاة الآدمية !!
فأجهش الضابط في البكاء وهو لا يقدر على الجواب إلا إنه قال :
- لا يا سيدي نحن لسنا ذاهبون إلى أم الرشراش !
فذهب كل الحماس عن الشيخ وابتعد عن الضابط بعض الشيء وقال مستنكراً :
- أتكتفون بحشدكم هذا على الحدود رغم كل هذه الانتهاكات يا ولدي !!
فخر الضابط جاثياً على ركبتيه وقد تبللت سترته من الدموع وراح يصرخ وهو لا يزال يمسك بيده قائلاً :
- لا يا سيدي نحن لن نحتشد على الحدود , نحن قادمون لهدم هذا البيت !!
فصعق الشيخ وشد كفه من كف الضابط واتسعت عيناه وقال مستغرباً :
- العدو لا يأتي من هنا ؟!
فتماسك الضابط وراح يقوم وهو يجفف دموعه السائلة على خديه وهو يقول :
- أنا لست بعدو أيها الشيخ ، إنما هي أوامر أنفذها من أجل الأمن القومي !!
وهنا أشاح الشيخ بوجهه عن الضابط واستدار وهو يقول متوجعاً :
- أي أمن ؟ ومن هؤلاء القوم ؟ من يريد أن يهدم هذا البيت لا يمكن أن يكون صديقاً !!
وهنا اندفع جندي يحمل جهاز الاتصال على ظهره وأعطى للضابط السماعة وكان القائد يوبخه بصوت جهوري خشن ويطالبه بنسف البيت فلما أراد أن يرد أنهى القائد الاتصال فرمى الضابط السماعة وشحذ قواه ورفع يده ليعطي إشارة البدء لتدمير البيت . فإذا بالشيخ يثور ويغرس عصاه في الرمال ويدور حول نفسه وهو يرسم دائرة وهو يصرخ غاضباً :
- من يريد أن يهدم هذا البيت لا يمكن أن يكون صديقا !!
فثارت عاصفة من الرمال كادت أن تقتلع الآليات وتمسك الجنود بها ولم تتمسك بهم أغطية رؤوسهم حتى هدأت العاصفة وإذا بجنود من نور أتوا من كل العصور احتشدوا خلف الشيخ لا يمكنك أن تحصيهم لكن يمكنك أن تتأكد من هزيمتك إن قاتلتهم وهنا صرخ الضابط مستغيثاً :
- إنهم إرهابيين ، إنهم إرهابيين
فصاح الشيخ موبخاً إياه قائلاً :
- كررها ثانية وسوف أقتلع لسانك من حلقك بأصبعي .
فابتلع الضابط لسانه واندفع متراجعا ً إلى الخلف حتى عثر عليه جندي الاتصال وراح يتصل بقائده قائلاً :
- يا سيدي القائد إن البيت ليس مهجور ، وأنا بحاجة لدعم !
فرد عليه القائد موبخاً :
- نفذ الأوامر أيها الضابط بما لديك وإلا ستجد محاكمة عسكرية بانتظارك إذا رجعت .
وهنا تفصد جسد الضابط عرقاً غزيراً وارتعدت فرائصه وراح يهتز بقوة وهو يصيح في جنوده المرعوبون قائلاً :
- دمروا هذا البيت !
وإذا بالشيخ ينادي في الجيش قائلاً :
- استعد للقتال يا أيها الجيش .
فشهقت السيوف ، وزفرت السهام ، وتراقصت الرماح ، وطقطقت البنادق ، وزمجرت الآليات ، ورفعت الرايات ، ورفرفت الأعلام ، ولما بدأ الضابط يتقدم نحو الجيش النوري انحنى الشيخ ورسم بعصاه خط على الرمال وكتب فوقه ( إنا منتصرون )
تمت
  

   

الجمعة، 11 يناير 2013

جسر السلام - قصة خيالية خارج نطاق السيطرة



جسر السلام
( قصة خيالية خارج نطاق السيطرة )
                                              اهداء
إلى شهداء ثورة 25 يناير الذين ضحوا بحياتهم من أجل حريتي ، فاللهم إني أشهدك أنني أشهد بفضلهم ، وإنه لولا دمائهم ما أصبحت أنا حراً ، فاجعل شهادتي في ميزان حسناتهم ، حتى ألقاهم على ما كانوا عليه .
ثوار أحرار
أو
شهداء أبرار
آمين

( 1 )
انتصف نهار الاثنين ، آخر يوم في السنة  ، وابراهام في مكتبه الوثير بوكالة الاستخبارات الأمريكية بضاحية لانجلي المطلة على نهر بوتوماك ، يرفع سماعة الهاتف ويطلب بأدب مقابلة المدير لأمر هام ، تحدد له مساعدة المدير موعد فوري ، فيبدأ بالاستعداد لمغادرة مكتبه حاملاً معه ملف ورقي ، وحاسوب لوحي .
( 2 )
يدق ابراهام  باب  المدير برقة بالغة بعد أن استأذنت له المساعدة الجميلة ، يدخل ابراهام ليجد المدير خلف مكتبه الضخم متحمس لمعرفة ما لدي ابراهام ، يتصافحان ، ويجلس ابراهام قائلاً :
-         سيدي لقد عثرنا على مقتنيات ثمينة جداً مع أحد تجار السلاح الروس منذ عدة أيام.
يهز بيلي رأسه قائلاً :
-         وماذا في ذلك ؟!
يواصل ابراهام قائلاً :
-         المشتري عربي يا سيدي !!
يشعل بيلي سيجارته وقد بدا على وجهه ملامح الاهتمام ، ويواصل ابراهام قائلاً :
-         أحد هذه المقتنيات سرقت من المتحف الفرنسي السنة الماضية !!
يعتدل بيلي في جلسته متسائلاً :
-         وما هي طبيعة صفقة السلاح ؟ وما مدى خطورته ؟
يتنهد ابراهام ويهز رأسه ويلوح بيديه بما يعني لا أعلم ، فيقف بيلي وهو يغادر المكتب آمراً ابراهام قائلاً :
-         حسناً ، جهز فريق عمل لمتابعة الأمر وإفادتنا بكل الأجوبة المطلوبة !
يسرع ابراهام خلفه في خطوات سريعة حتى يصلان المصعد وهو يقول :
-         سيدي ، أخشى أن هذه العملية تتطلب نوعية خاصة من العملاء يجيدون اللغات الشرقية ، وكذلك عاداتهم القذرة !!
يومئ بيلي برأسه بينما باب المصعد يفتح قائلاً :
-         حسناً يا ابراهام هل تقترح عميلاً محدداً ؟!
ويدخل بيلي المصعد بينما ابراهام يبقى خارجاً ليقول على استحياء :
-         في الواقع يا سيدي أنها عميلة !
يهز بيلي رأسه بالموافقة ، وهو يودع ابراهام بينما باب المصعد يغلق قائلاً :
-         ألقاها غداً ، عامك سعيد
يبتهج وجه ابراهام ويكاد ينفجر من تدفق الدم فيه ، ويمسك بهاتفه الجوال ويضرب بأصابعه الغليظة رقم ، وبينما يدق جوال هاجي في منزلها تخرج مسرعة من الحمام وهي عارية تماماً وترتمي على الفراش ممسكة بالجوال مرحبة بأبراهام الذي يبشرها قائلاً :
-         العميلة هاجي مرتبطة بموعد هام غداً !
تتقلب هاجي على الفراش بسعادة بالغة وهي تصيح :
-         غير معقول ، غداً إني أحبك جداً يا ابراهام
يسيل لعاب ابراهام وهو يلحس شفتيه بلسانه قائلاً :
-         لقد أوفيت بوعدي ، فماذا عن وعدك ؟!
تعتدل هاجي في جلستها على حافة الفراش قائلة بصوت مثير :
-         سأكون ملكك هذه الليلة لتفعل بي ما تشاء .
يكاد ابراهام يغشى عليه ، وراح يتصبب عرقاً وهو يقول :
حسناً ، سأنتظرك وكل ما تشتهينه سيكون حاضراً .
وينهي المكالمة بينما يمسح عرقه المتفصد من جلده ، بينما هاجي تتقافز مثل الطفلة الصغيرة وهي عائدة إلى الحمام .
( 3 )
وكانت ليلة رأس السنة قد حلت بمصر، ولكن هناك أربعة يتشحون بالسواد ويلتحفون برمال الصحراء الغربية بالقرب من واحة سيوه، يرصدون شيئاً ما حتى ومض ضوء من بعيد جداً سرعان ما اختفى وهنا قال قائدهم متسائلاً
-         سارة  هل حددت الموقع ؟
ترد سريعاً وهي تمسك بحاسوبها اللوحي :
-         نعم سيدي ، إنهم على مسافة ستة كيلو متر غرباً
فيأمرهم القائد بالتحرك بسرعة وهم يحملون حقائب على ظهورهم ، وأسلحة متنوعة بأيديهم ، وبينما تتحرك المجموعة نحو هدفهم كان الهدف قد وصل إلى مستودع كبير جداً للأسلحة ، يحتوي على صناديق مليئة بملايين الطلقات النارية المتنوعة ، ومئات الآلاف من قطع الأسلحة الصغيرة المتنوعة ، وعشرات الآلاف من القنابل اليدوية ، وآلاف الصواريخ الصغيرة  ، ومئات القاذفات المحمولة على الكتف ، وعشرات مدافع الهاون ، والليلة موعد تسليم منظومات متطورة جداً لأجهزة رصد جوي ، وبحري ، وكذلك عدة صواريخ متوسطة المدى شديدة التدمير ، مع منصات اطلاقها . كانت البهجة ترتسم على وجوه عشرات الر جال الملتحين والمتأنقين  وهم يستقبلون الشاحنات المحملة بالأسلحة وهم يهتفون :
-         الله أكبر، الله أكبر .
ولما تتوقف الشاحنات ويترجل منها بعض البدو ، يسرع الآخرين بفتح حقائب كبيرة في المنتصف بينهما ، تحتوي على عشرات الملايين من العملات النقدية المتنوعة ، تتهلل أسارير البدو وهم يشيرون للآخرين بمعاينة أسلحتهم ، الذين يسرعون بدورهم بفتح أبواب الشاحنات الموصدة بهمة ونشاط ، وفي تلك اللحظة وصلت المجموعة المتربصة ، وأشار لهم قائدهم بالالتفاف حول المستودع من جهاته الثلاثة على أن يهجم هو من المدخل الرئيسي . وفجأة يقتحم القائد من المدخل الرئيسي وهو يصيح طالباً من الجميع الانبطاح على الأرض ، يسود هرج ، ومرج ، وحالة شديدة من الارتباك ، معظمهم استجاب وانبطح وقليلون حاولوا المقاومة ، فما كان من القائد إلا أن استخدم سلاحه المتطور صغير الحجم ، كثير الطلقات ، دقيق التصويب ليردع من يقاوم ، بينما أفراد  مجموعته كانت تقتنص الأسلحة الصغيرة بين أصابع المقاومين برصاصات ذكية مبتكرة ، تصوب من جهاز رصد غاية في الدقة ، موضوعة على بنادق صغيرة الحجم ، خفيفة الوزن ، كثيفة النيران . وما هي إلا ثوان معدودة حتى أيقن كل من في المكان مدى حرج موقفهم فصاح كبيرهم المنبطح أرضاً في رجاله قائلاً :
-         استسلموا ، القوا بأسلحتكم ، انبطحوا أرضاً .
فاستجاب الجميع لأمره على مضض ، وراح أفراد المجموعة ينتشرون في أرجاء المستودع وهم يزرعون قنابل صغيرة ، شديدة الانفجار ، بينما كبيرهم يحذر قائد المجموعة قائلاً :
-         أنت ترتكب خطأ فادح يا هذا ولن يمر، خصوصاً إذا كنت تمثل أحد الجهات الأمنية.
يقترب قائد المجموعة من المتحدث بثقة بالغة حتى يكاد يلتصق حذائه العسكري الغليظ بوجه كبير المهربين ثم يتمتم قائلاً :
-         لست أنا من يرتكب الخطأ يا سيدي بل أنت !! وأنا لا أمثل أي جهة أمنية، نحن خارج نطاق السيطرة.
فيتدخل أحد المنبطحين مساوماً:
-         يمكنك أن تحصل على النقود وانصرف بسلام !
يقهقه القائد عالياً ثم يلتقط أنفاسه قائلاً:
-         أنت في وضع مزري لا يسمح لك بتقديم أي عروض ، لذلك اصمت بدلاً من أخذ روحك .
-         فيضع المتحدث وجهه على الأرض وهو يشعر بخيبة الأمل ، ولما يفرغ أفراد المجموعة من زرع قنابلهم يلتئمون حول قائدهم في منتصف المستودع ويهمس أحدهم في أذنه ثم يهمون بحزم الحقائب المكدسة بالأموال ، ويخرجون من حقائبهم عربات نقل مدولبة صغيرة الحجم ، شديدة المتانة ، ويحملون الحقائب فوقها ، ثم يتساءل القائد قائلاً :
-         ضد من ستستخدمون هذه الصواريخ المدمرة للمدن أيها القتلة ؟! ضد جيش الدولة النظامي ؟ أم ضد الشباب في مظاهراته السلمية ؟
لا يجيب أحد، فيرنوا ببصره نحو ساعة يده قائلاً:
-         ثلاثون ثانية وينفجر المكان اسرعوا بالهروب قبل فوات الأوان .
وما هي إلا طرفة عين حتى تكدس الجميع فوق بعضهم محاولين النجاة بأرواحهم من الموت المحقق متناسين مقاماتهم ، وأموالهم ، وسلاحهم ولم يتوقفوا خارجاً بل ركضوا كل على سعته فمنهم من توقف على بعد عدة أمتار ومنهم من توقف على بعد عدة كيلو مترات ، وبعد عدة ثوان تحول ليل الصحراء المعتم إلى ظهيرة بدون شمس حارقة ، واشتدت الحرارة حتى أشعلت ثياب القريبين منها ، وتلاشت المجموعة حتى لم يعد لها أثراً ! بينما كبير المهربين يمسك بهاتفه الجوال ويحاول أن يتصل بأحدهم وهو في غاية الاعياء ، وقمة الارتباك قائلاً :
-         نعم يا دكتور، إذا لم تكن قادراً على حمايتنا، والسيطرة على الأوغاد في أجهزتك الأمنية، فعليك أن تترك كرسي الرئاسة فوراً !
يحاول الآخر تهدئته قائلاً :
-         اهدأ قليلاً يا مهندس صفوت حتى أتمكن من فهم ما تقول .
يعتدل الرئيس في فراشه ، وينصت جيداً حتى أنهى الطرف الآخر المهاتفة بشكل غير لائق ، فيسرع الرئيس بالاتصال بآخر ولما رد بعد عدة رنات صرخ قائلاً :
-         أأتوني بمدير المخابرات فوراً ، فوراً
ورمى بغطائه على الأرض ونهض وهو في قمة الغضب والانفعال .
( 4 )
وفي واشنطن غابت شمس آخر نهار للعام القديم ، ليولد الليل الصاخب المليء بالحفلات ، والمكدس بالساهرين ، والمنشغلين أيضاً ، توقفت سيارة هاجي الرياضية الفاخرة أمام بيت ابراهام ، بينما يسرع هو في التعطر بمختلف أنواع العطور ، ويطمئن على جودة قوارير الخمر النادرة باهظة الثمن بتجرع كأس من كل قارورة ، ثم يسرع نحو الباب ليستقبل هاجي التي ترجلت من سيارتها بفستانها الساحر ، الذي يكشف أكثر مما يخفي ، ورائحة عطرها الفواح الذي ينبئ باقتراب قنبلة جنس موقوتة ، هذا غير سحر عيونها ، وجاذبيتها المفرطة ، وما كادت تلمس الباب حتى فتح ابراهام مرحباً مقبلاً يدها ، مادحاً جمالها ، ومهنئاً نفسه بسحرها هذه الليلة ، جلست هاجي مسترخية على الأريكة ، وجلس ابراهام بجوارها يحمل كأسين من الخمر المعتق ، ويمد يده لها بكأسها ، فتمسكه بيدها وتتجرعه على دفعات متتالية ولما همت بالسؤال عن مقابلة الغد قاطعها قائلاً :
-         الليلة قصيرة جداً، وأنا أريد استغلال كل دقيقة فيها معك.
فترتسم على شفتيها ابتسامة ماكرة وهي تضع كأسها على طاولة صغيرة بجوارها وهي تقول:
-         وهل ستصمد طوال الليل أيها المتصابي ؟!
فيدنو من وجهها بوجهه وهو يبتلع ريقه بصعوبة قائلاً:
-         يمكنك أن تجرب !
فتتحسس هاجي بيديها الرقيقتين خديه الممتلئين بالتجاعيد ، والجلد المترهل من فعل الزمن ، وتدنوا بشفتيها من شفتيه ، وتداعبه وتثير غرائزه ، حتى اشتعل الرجل ، واتقدت شهوته ، وراح يعتصرها بين ذراعيه ، ويقبل كل جسدها ، تركته يستبيح كل شيء فيها ، ويولج في كل فتحاتها ، وينتهك آدميتها بشذوذ وحقارة ، وقد أصابتها صدمة من أفعاله الوقحة لكنها أصرت على المواصلة ؟!
( 5)
في مكان ما على شاطئ البحر الأسود داخل الحدود الروسية، يتسلم أبو براء صفقة أسلحة غاية في الأهمية، ويسدد ثمنها بكمية كبيرة من المجوهرات النادرة، ويتبادل تحية الوداع مع التاجر الروسي، وتبحر السفينة تمخر الماء نحو جهة مجهولة.
( 6 )
أما في القاهرة صباح أول أيام السنة الجديدة ، التي لم تكن أبداً على البعض سعيدة ، احتشد أمراء الجماعات المتطرفة ، بزعامة الأمير صفوت الذي جلس على رأس مائدة الشر المستديرة ، وظل يوبخ جالسيه بسبب تسرب موعد تسليم صفقة السلاح الهامة والتي كان من الممكن أن تغير في ميزان قوة جماعته ضد كل أعدائها ، فحاول البعض تهدئته ، والبعض الآخر حاول مواساته ، أما القلة فكانوا يدفعونه دفعاً للانتقام ، ويحرضونه على استعادة هيبته التي ستهتز فور تسرب هذه الأخبار ، فراح الأمير الشرس بعينيه الغائرتين يدعو الله أن يمكنه من أعدائه ، ويملكه أعناقهم حتى يذبحها قرباناً إليه !!بينما كل الحضور يؤمن على دعائه كان أحمد يستيقظ ويبقى في فراشه ، بينما سارة تنهض من الفراش متجهة نحو الحمام ، أما مريم فكانت تستمتع بالمياه الدافئة في مغطس حمامها ، وأخيراً تنتبه ماريا لنفاذ الوقت فتقوم مسرعة من مغطس حمامها وهي تنشف جسدها بسرعة .
( 7 )
تنفتح الأبواب الأربعة في وقت واحد ، ويلتئم جمعهم عند باب المصعد ، يتبادلون التحية ، ويتفقون على اللقاء ليلاً للاحتفال بأول أيام العام الجديد ، ويستقلون المصعد ، الذي يهبط بهم سريعاً ، ثم يغادرونه نحو بوابة العمارة الفاخرة ، حيث يستقلون سياراتهم الواحد تلو الآخر ، حيث استقل أحمد سيارته ( الفولكس واجن ) بينما استقلت سارة سيارتها المرسيدس ( الكوبيه ) أما مريم فاستقلت سيارتها ( الرانجلر ) ذات الدفع الرباعي ، وأخيراً استقلت ماريا دراجتها النارية ( بي إم دبليو ) فائقة السرعة . وانطلق كل منهم نحو جهة عمله بابتسامة مشرقة
( 8 )
يصل أحمد إلى مبنى ادارة المخابرات ويستقبله الحارس على البوابة بالترحاب كالعادة ، ثم يبلغه بضرورة توجهه إلى قاعة الاجتماعات لأمر هام ، يركن أحمد سيارته ثم يترجل متجهاً نحو قاعة الاجتماعات ولما وصل وجد كبار القادة جالسين على الطاولة المستديرة يتلقون توبيخاً من مدير الجهاز بسبب عجزهم عن حماية أمن البلاد القومي ، تنفس الجالسون الصعداء بقدوم أحمد ، وهدأ المدير من لهجته وهو يسأل أحمد عن تفجير أمس ، الذي هز رأسه بالنفي فلما تابع المدير بأن الرئيس شخصياً مهتم بالأمر ويريد تفاصيل ، فقاطعه أحمد متسائلاً :
- نحن مصدر المعلومات الرئيسي للرئيس، فكيف علم بالتفجير قبلنا ؟ !
تنحنح المدير وطلب من الجميع المغادرة ثم أشار لأحمد بالبقاء قائلاً:
- سيد أحمد أنت تعرف مدى معزتي لك ، ومنتهى ثقتي بك ، فأرجوك لا تحرجني أمام الآخرين وقدر موقفي ، ومتطلبات منصبي !
فقام أحمد وهو يغادر المكتب قائلاً :
- اسأل الرئيس عن صواريخ ( سكود ) وأبلغه أن هذا الجهاز فيه رجال خارج السيطرة ، دافعوا عن الشعب في ظل النظام الفاسد ، وسيواصلون ذلك في ظل أي نظام آخر  !
وأغلق الباب خلفه بشيء من العنف، ليتنهد المدير وهو يتمتم مادحاً أحمد بأنه رجل خارج السيطرة ولكنه ليس خارجاً على القانون !
( 9 )
تتعقم سارة استعداداً لإجراء عملية جراحية دقيقة وبينما تتجه لغرفة العمليات تداهم أذناها الرقيقتين غمغمة حديث لطبيبين بالممر يقولان :
- لقد خسرت الجماعة ربع  أموالها الليلة الماضية .
- ونصف سلاحها الذي تكدسه منذ عشرات السنين .
فارتسمت على شفتيها ابتسامة زهو وفخر ، وراحت روحها تحلق في السماء
( 10 )
ارتمت مريم على الكرسي خلف المكتب من شدة الارهاق فرحة بانتهائها من تصميم لعبة جديدة للأطفال أسمتها ( سيوه والأربعين ) وراحت تعرضها على مديرها الذي أثنى عليها ، ومدح خيالها ، وهي تكتم الضحك ، وقرر منحها مكافأة مالية ضخمة تقديراً لجهدها ، واحتراماً لخيالها .
( 11 )
ماريا في غرفة التحكم بأحد القنوات الفضائية تخرج أحد البرامج الصباحية وكان الضيف الأخير ينفي للمذيعة نفياً قاطعاً وباتاً ولا شك فيه حدوث أي تفجيرات في الصحراء الغربية ! وتنعته ماريا بالكاذب وتنبه المذيعة لانتهاء الوقت وتسدل خاتمة البرنامج وهي تقوم متأففة متجهة إلى المذيعة المنهكة من شدة تحملها الأكاذيب، والمغالطات البينة، فتواسيها بالحسنى، وتدعوها للصبر وتغادر القناة عائدة للبيت.
( 12 )
انعقد الاجتماع في مكتب مدير وكالة المخابرات الأمريكية ، وبدأ بثناء المدير على العميلة هاجي ، التي شاركت في حرب أفغانستان ، وحيا دورها البطولي في الحرب على العراق الذي رشحها للالتحاق بالوكالة وتمنى أن تكون مؤهلة لانجاز هذه العملية الصعبة ، فرفعت هاجي يدها طالبة الكلمة فسمح لها ، قامت هاجي بقوامها الممشوق ، وحلتها الأنيقة متجهة نحو شاشة عملاقة معلقة على الجدار وراحت تشرح بإمعان عن خطورة الموقف من واقع المعلومات المتدفقة من كل مكان والتي تؤكد إعداد مجموعات ارهابية متعددة لعملية ضخمة في مكان ما  وقريباً ، أعاد المدير ثنائه عليها ومنحها كافة الصلاحيات لانجاز مهمتها بالتعاون مع فريق عمل تختاره بنفسها ، وبالاتصال بأجهزة المخابرات الصديقة ، بينما كان ابراهام يهمس في أذنها قائلاً :
- يبدوا أن عاهرتي قد ضاجعت نصف عملاء الوكالة لتحصل على معلومات الشيطان يعجز عن جمعها في سنة !
فترتسم على شفتيها ابتسامة شاحبة وهي تشيح بوجهها عنه وأسرعت منصرفة خلف مدير الوكالة.
( 13 )
وعند غروب الشمس في القاهرة التئم جمع الأصدقاء الأربعة ، على ظهر أحد المراكب النيلية ، وجلسوا جميعاً على مائدة الخير المستطيلة ، ليرحب القائد بهن ثم يتساءل عما يفعلونه بالأموال ، ويدور بينهم حوار عن مقترحات متعددة ما بين بناء مستشفى للعلاج المجاني، أو ملاجئ للأيتام ، أو تخصيص وقف خيري للفقراء ، حتى يقترح أحمد بناء مجموعة مدارس لمحو الأمية ، والتعليم تكون ذات طابع تعليمي مميز ، وبناء هندسي منفرد ، صديقة للبيئة ، مكتفية ذاتياً ، ومجانية طبعاً وذلك بهدف تعليم الكبار الذين يأخذون الوطن بجهلهم نحو سوء القرار . يتحمسن الثلاثة لهذا المشروع، وتعد كل واحدة منهن بعمل ما يلزم، وفي أقرب وقت لتكوين فريق عمل مناسب لتنفيذ هذا المشروع قبل نهاية العام، وينفض اجتماعهم ويغادر كل واحد منهم سطح السفينة الماخرة في مياه النيل بطريقته ؟!
( 14 )
تهبط طائرة وكالة المخابرات الأمريكية في أحد مطارات دول الاتحاد السوفيتي المنحل ، وتنزل منها هاجي بثيابها شبه العسكرية لتستقل سيارة عسكرية بصحبة مجموعة من الضباط ، تنطلق السيارة نحو أحد السجون السرية في تلك الدولة ، ولما تصل السيارة لبوابة السجن الرئيسية يدق نفير استقبال كبار الزوار وتفتح البوابة بكل ترحاب ، وتترجل هاجي وتصافح مستقبليها وهي تسأل بجدية عن السجينة ، وعبر ممرات ضيقة متجهة لأسفل الأرض تصل إلى زنزانة منفردة في آخر الممر ، تقبع بها أسرة أحد أمراء الجماعات المتطرفة ، زوجة في منتصف العمر ، وولد في العاشرة ، وبنتان أقل من ذلك ، عندما يفتح الباب تفزع العائلة وتلتصق بالجدار ، بينما هاجي تنظر إليهم باحتقار قائلة :
- أين والدكم ؟ أين زوجك ؟
يشيرون برأسهم لا يعلمون والرعب يملأ عيونهم ، فتقرر اصطحابهم إلى القاهرة لاستجوابهم هناك ، وتعود خارجة من حيث أتت .
( 15 )
بينما الأمير صفوت جالساً في مكتبه بأحد أحياء القاهرة الفاخرة ، ويجلس من حوله مسئولي الأجهزة الأمنية كافة ، وهو يوبخهم ويحملهم مسئولية تفجيرات سيوه ، وهم ينفون ذلك ، ويعدون ببذل قصارى جهدهم لكشف الفاعلين ، يطنطن جواله ، ولما يكتشف إنها السفيرة الأمريكية يلوح للجميع بالهدوء ، وبمنتهى الخضوع ، والتذلل يرد مرحباً باتصالها ، وتلقي في إذنه بعض الكلمات ، فيجيبها سريعاً بأنه سيبذل قصارى جهده ، وتنهي السفيرة المكالمة ليرنو ببصره نحو مدير المخابرات قائلاً :
- غداً سأكون برفقتك لاستقبال الضيوف !!
فيهز المدير برأسه مرحباً .
( 16 )
وفي مساء اليوم التالي بينما أحمد يغادر مكتبه يصطدم به أحد الضباط في الرواق وهو ينهج قائلاً:
- سيدي جريمة كبرى ترتكب في هذا المبنى، نحن لا نريد أن نكون جزءاً من هذا... ارجوك يا سيدي !
هدأه أحمد ودعه يلتقط أنفاسه ، ولما فهم الأمر استشاط غضباً وراح مسرعاً نحو غرفة الاستجواب وخطواته تفجر أسفلها ينابيع الخير ، كل من رآه تحاشاه ، وكثير منهم اتبعه ، حتى وصل إلى الغرفة فاقتحمها دون استئذان ليجد المرأة عارية تماماً ، ومعلقة على الجدار ، والأطفال يهددون بإيذاء أمهم إن لم يتكلموا ، بكاء ، ونواح ، وعويل ، مأساة كاملة في غرفة الاستجواب ، بينما مدير الجهاز متأففاً ، وهاجي ممتعضة ، والأمير المتطرف مستمتعاً ، ويصيح أحمد فيهم قائلاً :
- ماذا يحدث هنا أيها المجرمون ؟
يفزع المستجوبون ، ويسرع أحد الضباط بإنزال الذبيحة من على الحائط ، ويهدئ آخرون من روع الأطفال ، ويستر آخر عورة المرأة العارية ، حدث كل هذا سريعاً جداً ، وراح الأمير يصرخ بدهشة :
- من أنتم وماذا يحدث هنا ؟
لم يرد عليه أحد ، وهاجي في صدمة كبيرة مستغربة ، ومدير الجهاز امتقع وجهه من الحياء ، ولا يدري ما يقول ، حتى أخرج الأمير المجرم مسدسه ومن خلفه حراسه مصوباً إياه إلى أحمد طالباً من الجميع التوقف ، وما هي إلا طرفة عين حتى خرجت عشرات المسدسات مصوبة تجاه الأمير فامتقع وجهه هو الآخر ، وما زاد الطين بله أن أخرج أحمد جواله وأبلغ  النائب العام ! وهنا اقتربت منه هاجي متسائلة:
- إن المرأة التي أنت متحمس لها هكذا زوجة ارهابي خطير ، ينتوي قتل عشرات النساء والأطفال فلا يجب أن تحرمنا من فرصة استجوابها ، وإنقاذ الآخرين .
فينظر لها أحمد باشمئزاز قائلاً بقرف :
- وما ذنب عائلة المجرم بإجرامه ، إنهم ضحاياه مثلنا تماماً ، ومعركتنا بالأساس مع الارهاب معركة أخلاقية لا يجب أن نخسرها ، وما فائدة أن نقاوم الجريمة بجريمة مثلها ، ونصبح نحن حماة القانون خارجون عليه ، فنتحول من أبطال إلى مجرمين ، وعندها نخسر الاثنين معاً .
يلمع في عيني هاجي بريق الانبهار وما قطع هذا الانبهار إلا صراخ أحد الضباط ينبئ بمحاصرة قوات من الحرس الجمهوري للمكان ، ابتلع الأمير ريقه ، وتهللت أساريره ، وترقبت هاجي رد فعل الثائر الخطير ، الذي أمر بالقبض على الجميع بما في ذلك مدير الجهاز ، واصطحبهم للخارج حتى صار في مواجهة طلائع قوات الحرس المدججة بالسلاح ، وراح يناديهم قائلاً - إن الجماعة الحاكمة الآن تريد أن تعيد مصر إلى ما كانت عليه ، سجن كبير ، لشعب ذليل ، ونحن السجانين .  وهذه أسرة اختطفتها المخابرات الأمريكية أم وأطفالها ، وهذه عميلتهم موقوفة ،  وهذا الأمير مثلها ، ومديرنا في زمرتهم يحمل عار جريمتهم ، ونصر على تسليمهم للنائب العام حتى تصبح عبرة ولا تتكرر ثانية أبداً ، فإذا ساعدتمونا فتلك العزة لنا ولكم ولشرف عسكريتنا ، وإن منعتمونا فهو القتال ونحن على الحق وأنتم على الباطل .
فترجل قائد مجموعة الحرس نحو أحمد  بخطوات عسكرية ثابتة ثم توقف امامه بعزة وفخر ، مؤدياً له التحية العسكرية بثبات شديد والدمع يلمع في عينيه قائلاً :
- تحت أمرك سيدي ، سوف تصل إلى مكتب النائب العام في حراسة قواتي .
فصاح كل من في فناء الجهاز :
- تحيى مصر ... تحيى مصر
وكان مشهداً مهيباً، عجزت العيون عن استيعابه، والعقول عن تفهمه، ولكن ابتهجت له القلوب، وحلقت به الأرواح.
( 17 )
وبينما الموكب يتقدم بسرعة نحو النيابة ، كان الخبر ينتشر سريعاً على صفحات التواصل الاجتماعي ، وكانت مشاعر فياضة تغزو قلب هاجي الصغير وهي ترنو ببصرها نحو الضابط الشجاع ولما لاحظ ذلك قال باستغراب :
- ألا تشعرين بأي قلق يا سيادة الضابطة، فقد تواجهين تهمة تقضين بها بقية حياتك في السجن ؟!
تبتسم هاجي قائلة:
- مثلك لا يظلم يا سيادة اللواء، وأنا تعلمت على يدك درساً لا يمكن أن أنساه، وأعدك أن لا أنساك أنت أيضاً !!
فابتسم هو الآخر وقد فهم رسالتها وقد توقفت المدرعة أمام مكتب النائب العام
وما كاد احمد يطل برأسه من باب المدرعة الخلفي حتى تفاجأ بآلاف الشباب المحتشد يحيطون به ومن بينهم أفراد فريقه ، وبعض أقاربه ، ونزل من المدرعة وهو يصطحب هاجي والأمير ومدير الجهاز واتجه للداخل صاعداً الدرج ، ثم الرواق الداخلي حتى دخل مكتب احد نواب العموم وأغلق الباب عليهم جميعاً ثم قال وهو ينظر للنائب بعينين واسعتين :
- سيادة النائب العام قضية وطن بين يديك ، فافعل ما يجب عليك !
استجمع النائب الشاب أشلائه المتبعثرة ، وهدأ روعه من المفاجأة المذهلة ، وراح يرفع سماعة الهاتف جانباً ، ويغلق جواله وهو يبدأ التحقيق .
( 18 )
انقلبت الدنيا رأساً على عقب ، وكالات الأنباء تنشر الأخبار ، والبيت الأبيض يطلب من وزارة الخارجية ، ووكالة المخابرات تفسيرات ، وكلهم يلحون على السفارة الأمريكية بالقاهرة بطلب المعلومات ، وهي  بدورها تطارد الرئاسة المصرية بسرعة التصرف واحتواء الموقف ، والرئيس يلجأ إلى جماعته العنصرية طالباً القرار ، ومجلس الجماعة انعقد في حالة طارئة يدرس الأمر واتخاذ قرار ، و الحشد الذي كان بالآلاف أصبح مع منتصف الليل بعشرات الآلاف ، والقنوات الاخبارية ترصد كل ذرة في المكان ، ومندوبو القنوات الفضائية يبثون تقارير حية واستطلاعات لرأي المتظاهرين ، ومئات الصحفيين يلهثون وراء المعلومات وجديد التحقيقات ، وتيقنت كل الأطراف أن الأمر قد أفلت وأصبح لأول مرة ما كان يدور خلف الجدران ، مشاع بين الناس ، وانتهى وكيل النائب العام من تحقيقاته وأصدر قراره بإطلاق سراح الأسرة المختطفة بلا قيد أو شرط ، وإطلاق سراح هاجي والأمير ومدير الجهاز بكفالة مائة ألف جنيه على أن يمنع الجميع من السفر حتى تنتهي التحقيقات ، واستدعاء رئيس الجمهورية ، ووزير الدفاع ، والداخلية ، لأخذ أقوالهما في القضية ، تهللت أسارير أحمد ، بينما تشنج الأمير واستشاط غضباً ، وحمد مدير الجهاز الله على النجاة ولو مؤقتاً ، وخرج الجميع من الباب ، وكل له مستقبليه ، فقد تلقف حرس السفارة الأمريكية هاجي وأسرعوا بإدخالها السيارة وفروا بها هاربين ، وتلقف أعضاء الجماعة أميرهم وأسرعوا به فارين ، وتلقف بعض أفراد من الحرس الجمهوري مدير الجهاز وأسرعوا به لمقابلة الرئيس ، أما المحتشدين فقد تلقفوا أحمد ووكيل النائب العام وأفراد الأسرة المختطفة وحملوهم على الأعناق ، وهم يهتفون للحرية ، ولعزة الوطن ، وسيادة القانون .
( 19 )
وفي منتصف نهار اليوم التالي كان جوال هاجي يدق وهي تتقلب على فراشها بأحد غرف السفارة بإعياء تام ، ولما نظرت لشاشة الجوال فزعت وانتفضت ، واعتدلت ثم ردت بوجوم تام قائلة :
- مرحباً سيادة الرئيس !
رد تحيتها ثم سألها عن حالتها ، وأخيراً استفسر عن الأحداث ، وراحت تقص له ما دار باختصار ، وتؤكد له عدم وجود سيطرة على أي شيء في مصر عدا هذا الضابط ، ودافعت عن موقفها بأنها لم يكن لديها أي اختيار فيما فعلت ، وأخيراً أكدت للرئيس وجود شيء ما يدبر ضد الوطن ، ويمس مصالحه ، وترجته أن يمنحها الفرصة كاملة حتى تحقق ذلك ، وقرر الرئيس منحها تلك الفرصة ، مطالباً اياها أن لا تخيب ظن الشعب الأمريكي فيها ، وانتهت المكالمة بينما هاجي تتقافز على السرير فرحة وسعيدة ، ثم تعود لجوالها مرة أخرى وتدق رقم ابراهام ، الذي يرد عليها سريعاً وهو يصيح بإعجاب لما فعلته في القاهرة ، ثم تسأله باهتمام عن أحمد ، فيصمت قليلاً ثم يخبرها بأنه فقد أسرته في أحداث سبتمبر عندما كانوا على متن الطائرة المختطفة التي أسقطتها الطائرات الأمريكية ، ويتداعى إليه البكاء حين يقول في ود شديد :
- هذا رجل ساحر ، يملك القلوب ، يرحم أعدائه ، وعفوه دائماً يسبق غضبه ، يعمل في مجالنا هذا بطريقة متفردة ، لكنها عظيمة ومنجزة ... أبلغيه سلامي يا هاجي ، وتعلمي منه كل شيء ... لكن لا تدعيه يسحرك ويمتلك قلبك !
وانتهت المكالمة ، وهاجي شاردة الذهن ، حائرة ، متعاطفة ، تتصارع مشاعرها حتى أحست بقلبها وقد انقسم  إلى نصفين الأول في القطب الشمالي ببرودته القارصة ، والآخر على خط الاستواء بحرارته الحارقة ، فأصابها الدوار ، وارتمت برأسها على الوسادة تستريح ، والدموع تتسلل من بين جفنيها ، لتروي رموش عينيها ، ثم تحفر على خديها نهرين صغيرين أحدهما من الجنة ، والآخر من  النار ! وهي تحور جسدها كالجنين في رحم أمه .
( 20 )
وفي المساء ، في بيت أحمد حيث اقام محبيه حفل عشاء على شرف انجازه ، وبينما يتناولون العشاء إذا بجرس الباب يدق ، فاتجهت ماريا لتفتح وإذا بقائد الحرس الجمهوري أمامها ، حياها بود ، فردت تحيته بعدائية متسائلة عن سبب مجيئه ، فيسود الحفل صمت ، يليه سكون ، حتى تنحنح أحمد مرحباً بقائد الحرس ، داعياً إياه لتناول العشاء ، فيعتذر منه بأدب ويبلغه بأن الرئيس يطلب مقابلته ، يثور كل من في الحفل مطالبينه بعدم الذهاب ، فيهدأهم أحمد بصعوبة ثم يقول :
- يا سيادة قائد الحرس هل هذا ضبط وإحضار ؟
فيصيح قائد الحرس مقسماً :
- لا والله يا سيدي ... إنها مجرد زيارة لطلب المشورة والنصح ولك كل الخيار أن تحضر أو لا تحضر ...
ثم أقسم للجميع بشرفه العسكري أن يعيد أحمد كما أخذه ولا يؤذيه أحد إلا على جثته ، فاستجاب أحمد لطلبه وراح يرتدي ثيابه بينما الجميع ممتعض ، ولما عاد من غرفته استوقفته سارة مترجية إياه عدم الذهاب ، فربت على كتفها قائلاً :
- أنا ذاهب لمقابلة رئيس جمهورية مصر وليس الأعداء !
وهنا استوقفته مريم مرة أخرى مطمئنة وأكدت له إنهن سيكونن على استعداد ،  وأخيراً استوقفته ماريا وهي تدعوا له بالعودة سالماً .
( 21 )
وبينما تمرق سيارة الرئاسة الفارهة نحو القصر الرئاسي ، كان هناك اجتماع شيطاني يحضره الرئيس ، والأمير ، وبعض القيادات الدينية المتطرفة الأخرى ، وقد تجاذبوا أطراف الحديث وانتووا على الترغيب أولاً فإن لم يكن فالترهيب ، وقام الجميع ترحيباً بمقدم أحمد الذي صافحهم بمشاعر حذرة ، وطلب إليه الرئيس الجلوس ، ثم قال :
- يا سيد أحمد نحن نعتذر عن كل ما بدر منا ، وأؤكد لك إنني لم أكن أعلم بما يدور في جهازكم ، وقد أصدرت قراراً بإقالة المدير الحالي ، وتكليفك بدلاً منه !
ويسود صمت ، حتى يعتدل أحمد في جلسته قائلاً :
- سيدي الرئيس أنت تكذب ! لأن الضابطة الأمريكية اعترفت بأن جماعتكم العنصرية كانت على اضطلاع بالعملية ، وأما المنصب الذي تعرضه علي فأنا لا أقبله لأنني ببساطة خارج نطاق السيطرة !
وإذا بالأمير صفوت يهب واقفاً من هول الصدمة وهو يصيح :
- إنه أنت ... أنت !!
ويسود المجلس حالة من الترقب ، والاستغراب ، حتى وقف أحمد وهو يتجه نحو صفوت واضعاً رأسه برأسه قائلاً :
- نعم هو أنا .
فيهب الجميع واقفين مترقبين ما يدور بين الاثنين ، وهما يهمسان في أذن بعضيهما :
صفوت : سوف أجعلك تتمنى الموت فلا تجده !
أحمد : أنا سأرشدك له سريعاً جداً ، فمكانك في جهنم فارغاً !
صفوت : لا تستهين بقدراتي ، فأنا لا أرحم !
أحمد : أنا أعرف قدراتك ...  منافق ،  عليم اللسان ، يجادل بالقرآن ، وعميل للأمريكان !
صفوت : قضيا الأمر ، وودع أهلك ، فأنت ملاق ربك !
أحمد : وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ، وما تدري نفس بأي أرض تموت !
وهنا اندفع صفوت خارجاً من المجلس ، بينما أحمد يشير لقائد الحرس بإعادته لمنزله وفشل اللقاء ، وسط حالة من الذهول كست وجوه الجميع .
( 22 )
وبقيت هاجي تحاول مقابلة أحمد دون جدوى ، ذهبت لسارة في المستشفى فامتنعت عن مساعدتها وقابلتها ببرود ، وذهبت إلى مريم في شركة البرمجيات التي رحبت بها ولكنها لم تعدها بأي شيء ، ولما راحت إلى ماريا في مبنى القناة الفضائية استقبلتها بحرارة ، لكنها أكدت عدم تحمسها للتدخل في هذا الأمر ، وواربت لها باب عندما ألقت أمامها معلومة عن ابنة أخته فاطمة الطالبة بالجامعة الأمريكية ، والتي يعشقها أحمد عشقاً لأنها تشبه ابنته التي استشهدت في أحداث سبتمبر ، فتسرع هاجي متجهة نحو الجامعة الأمريكية والأمل يملأها ، ولما وصلت راحت تفتش عن فاطمة كبحث الظمآن في قيظ الصحراء عن الماء ، وأخيراً وجدتها في أحد زوايا المكتبة منطوية على نفسها ، منكبه على القراءة ، توقفت هاجي أمام طاولتها وتنحنحت فانتبهت إليها فاطمة ودعتها للجلوس ولما جلست قالت وهي تتنهد :
- أريد مقابلة خالك أحمد يا فاطمة !
تتعجب فاطمة وترد :
- أنت تعرفين جيداً كيف تجدينه !
تتابع هاجي وهي تمسك بيديها :
- لا أريده مجرد لقاء ... أريده أن يرحب بذلك ... أريده أن يتعاون معي !
تمصمص فاطمة شفتيها وترد :
- وماذا يمكن أن أفعل مع خالي ؟! إنه رجل كما تعرفين خارج نطاق السيطرة !
تقف هاجي وهي تستعد للانصراف قائلة :
- أخبريه أن والدي استشهدا أيضاً في أحداث سبتمبر ... أكدي له أن مأساتنا واحدة ، وطريقنا واحد !
ثم تستأذن وتستدير خارجة من المكتبة تاركة فاطمة في حيرة بالغة .
( 23 )
في منتصف الليل ، على أحد أرصفة موانيء البحر الأسود الايرانية رست سفينة الأسلحة المهربة وسط حراسة مكثفة من الحرس الثوري ،وراحت الأوناش تنقل الحاويات على ظهر الشاحنات ،  ومرقت الشاحنات المسطحة تحتضن الحاويات الثقيلة ، وتنطلق بها نحو جهة مجهولة وفي عتمة الليل المظلم يرحب قائد مجموعة الحرس بالأمير أمجد الطواحني ويدعوا له بالتوفيق ، بينما الثاني يرد التحية بمثلها ويؤكد له إن هذه العملية ستزلزل الكيان الأمريكي وتجعله أضحوكة وسط أطفال العالم وليس كبارهم فقط ، وطمئنه للاستعدادات وخصوصاً عملية الحشد للمجموعات المسلحة  التي تتم على قدم وساق في سيناء .
( 24 )
استدعت الجدة أحمد إلى بيت العائلة في أحد أحياء القاهرة القديمة ، وأسرع ملبياً استدعائها ولما دخل من الباب وجد والدته ، وفاطمة ، وفريقه الثلاثي ، وأخيراً هاجي ملتئمات في الصالة الرئيسية ، أدرك أحمد الفخ الذي وقع فيه فارتسمت على شفتيه ابتسامة الخضوع ، فراح ناحيتهم وألقى عليهن السلام ثم جلس وهو يتأوه من الارهاق قائلاً :
- من صاحب هذا الفخ المحكم ؟
- فرددن جميعهن بصوت واحد :
- أنا !!
فانتاب الجميع حالة من الضحك الهستيري ، وانصرفت كل واحدة منهن  تشغل نفسها بشيء حتى تتيح فرصة الحديث بينهما ، تقترب هاجي منه وتقول
- أنت تثق كثيراً في النساء ، فلماذا لا تثق بي ؟!
فينظر إليها مشفقاً ثم يقول :
- لأني لا أرى أمامي أية أنثى ؟!
تبحلق هاجي فيه مستغربة وتقول وهي غاضبة :
- وماذا تراني إذن ؟!!
يرد عليها وهو يقف ليصبح في مواجهتها قائلاً :
- أراك رجلاً طموحاً ، شرساً ، مجرماً ، يغلفه جسد أنثى جميل ، ويسكنه روح شيطان رجيم !!
تنقبض ملامح وجه هاجي تأثراً ، وهي تحوم حوله قائلة :
- نعم ، أنا كنت كذلك لكني تغيرت أؤكد لك ذلك ، ويمكنك إن تثق بي وتتعاون معي .
ينظر أحمد إليها ويقول مستغرباً :
- أنت تطلبين المستحيل !!!
تتجه هاجي نحو حقيبتها وتجذبها بعصبية ، ثم تتجه نحو الباب وهي تقول :
- هناك آلاف الأرواح البريئة سوف تزهق على يد مجموعة من المجانين ، وأنت هنا تحدثني عن الثقة فيما بيننا ، سوف تتألم كثيراً يا أحمد ويؤنبك ضميرك عندما يحدث ذلك ، وتدرك إنه كان بإمكانك ايقافه !
وتسرع خارجة من الباب بخطى واسعة ، بينما أحمد يسرع خلفها مستفسراً وهو يقول :
- عن أي عملية تتحدثين ؟ لا يمكن أن يحدث هذا في مصر وأنا على قيد الحياة !
ولما انتهى الدرج الصغير ، وأصبحت أمام سيارتها استدارت إليه قائلة :
- هناك استعدادات ضخمة تتم لا يمكن أن تكون إلا لعملية ارهابية كبيرة ، ونحن لا نعلم مكانها ، ولا زمانها حتى الآن ، أقسم لك بذلك .
ثم عادت لتفتح موصد سيارتها ، وأحمد يتنهد كأنه بدأ يخضع ، وإذا بخيط ليزري مضيء يومض في عيني هاجي ، وهو في طريقه إلى صدر أحمد فتستدير وهي تصرخ وتحتضنه :
- قناص !
وما تكاد تنهي الصاد حتى اخترقت جسدها طلقة صائبة ، ماتت في قلبها ، نضحت دمائها على قميصه وهي تتهاوى ، وشعر بخفقان قلبها المصاب يبث فيه دفئ قد نسيه منذ استشهدت زوجته ، ونظر إلى عينيها الذاهبتين ، فراح يصيح طالباً النجدة ، وعلى الفور انقلب الشارع رأساً على عقب ، حملتاها سارة ومريم في السيارة ، وأسرعا بها لأقرب مستشفى ، بينما ماريا وأحمد يتتبعان بأعينهم أي احتمال لمصدر الطلقة ، ولما لمحا حركة ما من بعيد أسرعا راكضين نحو أحد العمارات القديمة ، ولما وصلا توقفا ، فدخل أحمد من يمين ، ودخلت ماريا من يسار ، حتى أصبحا على سطح العمارة ، وبينما كان الضوء شحيحاً ، وعشرات قطع الأثاث البالية تملأ السطح ، سمع صوت احتكاك فأسرعا نحوه فإذا بالقناص أسفل العمارة يستقل سيارة سوداء بدون لوحات ، ويدقق أحمد النظر في السيارة ثم ينظر إليها ، فتهز رأسها له كأنها فهمت ما يريد .
( 25 )
بعد عدة دقائق ، في أحد مساجد أحياء القاهرة الراقية ، بينما الشيخ مازن يلقن تابعيه سموم المساء ، يدخل أحدهما المسجد ويتجه نحو الشيخ ثم يهمس في أذنه ، فيشيح الشيخ بوجهه عنه غاضباً ، ويستأذن مسرعاً ، بينما الأخبار تتسرب ، وعشرات المهتمين بأمر هاجي يتدفقون على المستشفى للاطمئنان على حالتها كانت هاجي في غرفة العمليات تخضع لعملية جراحية دقيقة في القلب تجريها لها سارة ، وبعد عدة محاولات تمكنت أخيراً من التقاط الرصاصة ، ووقف النزيف ، وسد الجرح ، وخرجت سارة مرهقة تماماً ، بينما هاجي على السرير المتحرك فاقدة للوعي تماماً ، أسرع الجميع نحوها لا يسألون ، فقط ينظرون ، حتى قالت :
- لقد نجحت العملية ، وهي بين يدي الرحمن الآن .
فاطمئن الجميع قليلاً ، وراح مندوب السفارة يستفسر عن امكانية نقلها إلى أمريكا ، أو حتى استدعاء فريق طبي خاص لها ، فنظرت له سارة مشمئزة قائلة:
- هل لديكم علاقات خاصة بالرحمن ؟! أو قدرة على ايقاف ملك الموت ؟
فهز المندوب رأسه بأن لا فواصلت قائلة :
- إذن اصمت واكتفي بالدعاء لها !
وراحت سارة لتلتئم مع بقية فريقها لمعرفة أحدث المعلومات المتوفرة لديهم .
( 26 )
وبينما الفجر يلوح في سماء القاهرة ، وفي ظهيرها الصحراوي  ، كانا صفوت ومازن يتبادلان العتاب الشديد على هذا الخطأ البشع ، الذي يحاول مازن التقليل من شأنه ، بينما صفوت يحذره من تكرار هذه العملية ، وانصرف وهو غاضباً ، ثم يتجه مازن إلى سيارته ويأمر السائق بالتحرك ، كما يأمره بإرسال القناص إلى سوريا للجهاد ؟! حتى تهدأ الأمور ، ويهز السائق رأسه سمعاً وطاعة .
( 27 )
وفي مساء اليوم التالي ، في غرفة تنويم هاجي بالمستشفى ، بدأت تستفيق حيث رنت بعينيها لتجد أحمد على أحد الكراسي يقرأ القرآن وهو يجهش في البكاء ، فأشارت له بإعياء ، فصدق على قراءته ، واقترب منها قائلاً :
- حمداً لله على سلامتك .
فابتلعت ريقها بصعوبة وقالت بصوت ضعيف :
- لا تصدق إني افتديتك ، فأنت لا تعني بالنسبة لي أي شيء !!
فترتسم على شفتي أحمد ابتسامة رائعة ثم يقول وهو يمسك بيدها :
- بالطبع ، فلا تصدقي أنني قد منحتك ثقتي ، وضممتك إلى فريق خارج نطاق السيطرة .
وهنا يدخلن سارة ، مريم ، ماريا ، ثم فاطمة ، ويلتففن حول السرير مهنئات  هاجي على سلامتها ، وكذلك مرحبات بانضمامها لفريقهن وسط مشاعر جياشة من الحب ، والتراحم فيما بينهم .
( 28 )
مئات الشاحنات  المحملة بالحاويات المغلقة تتحرك على طرق إيرانية متعددة ، ومئات الشاحنات الأخرى تتحرك فارغة من داخل العراق نحو منافذ الحدود الإيرانية ، ويحدث مثل هذه التحركات من داخل سوريا إلى منافذها الحدودية مع العراق ، ومن داخل لبنان إلى منافذها الحدودية مع سوريا ، وقد أثارت هذه التحركات الغير مألوفة للشاحنات في طوابير طويلة اهتمام عملاء وكالة المخابرات الأمريكية وغيرهم فأسرعوا يتبادلون المعلومات عساهم  يفهمون ،ومن ضمن هؤلاء أخطرت هاجي المنومة تحت الرعاية في المستشفى ، وعلى الفور استدعت أحمد لتخبره وتتناقش معه،الذي دعا بدوره إلى اجتماع موسع ربما يوصلهم لشيء ، وفي غرفة عمليات خارج نطاق السيطرة التئم الجميع على طاولة مستديرة ، في غرفة ضوئها خافت ، معلق على جدرانها شاشات عرض كبيرة ، متصلة بأجهزة الحواسيب التي معهم ،تبدأ هاجي بعرض المعلومات مؤكدة أن هذه هي صفقة الأسلحة المهربة من روسيا ، وعبرت عن ظنها بأنها ربما تكون متجهة على عدة جهات وليس جهة واحدة ، فقاطعتها سارة معترضة مؤكدة أن لو كان غاية التهريب النهائية إلى مصر لمرت القافلة بطريق الأردن وليس سوريا ، أو عبر البحر إلى السودان و  منه إلى مصر ، ثم أمسكت برأسها وتنهدت في قمة الحيرة ، فتابعتها مريم بتحليلها للأمر على إنه حيلة صغيرة للإلهاء عن كارثة كبيرة ، وأكدت بيقين أن كل هذا غير حقيقي ، وساقت مبررها بأن هذه القوافل مكشوفة عن عمد ؟! ، وهنا تدخلت ماريا بطرح احتمال جديد يتلخص في قيام الجماعة العنصرية بشراء صفقة سلاح جديدة وهذا ما يجب التأكد منه قبل اتخاذ أي اجراء ، وهنا هزت فاطمة رأسها موافقة ، بينما أحمد يمسك برأسه وهو في قمة حيرته ثم ينظر إليهن قائلاً :
- حسناً ... نريد استجواب صفوت بطريقة لا تجعله يفكر في الكذب ! ونواصل تتبع الشاحنات بصورة عادية ، ولكن علينا التواصل مع كل أصدقائنا على الحدود لرصد أي تدفق لهذه الأسلحة فوراً ، وتقاطعه هاجي مطالبة برصد كل المتسللين عبر الحدود خلال الفترة القادمة دون اشعارهم بذلك ، ويوافقها أحمد وينفض المجتمعين للعمل ؟!
( 29 )
وبينما يتجهز أفراد فريق خارج نطاق السيطرة لانجاز مهامهم ، كانت هناك مجموعة كبيرة تتسلل عبر الأنفاق مع قطاع غزة ، ومجموعة ثانية  تدخل عبر منفذ طابا بوثائق سفر إسرائيلية ! ومجموعة ثالثة تدخل عبر ميناء السويس بوثائق سفر قطرية ! ومجموعة رابعة تدخل عبر ميناء بورسعيد بوثائق سفر قبرصية ! ومجموعة خامسة تتسلل من البحر إلى مدينة رأس البر ، ومجموعة سادسة تتسلل من البحر إلى مدينة رشيد ، ومجموعة سابعة تدخل عبر ميناء القاهرة الجوي بوثائق سفر مصرية ! ومجموعة ثامنة تدخل عبر منفذ وادي حلفا بوثائق سفر سودانية !
( 30 )
في أحد الشقق الفاخرة ، بأحد العمارات الشاهقة ، بوسط القاهرة يجتمع الأمير سراً مع بعض مساعديه ليضع لهم مخططات الأيام القادمة ، ويلقنهم ما يدلون به من تصريحات لوسائل الاعلام حول محاولة اغتيال عميلة المخابرات الأمريكية ، ويوجههم للتقشف في المصروفات بسبب الخسائر التي منيت بها الجماعة من جراء تفجير مستودع الأسلحة وذلك بوقف بيع السلع المدعمة ، وتوزيع الصدقات إلى أجل غير مسمى ، ثم هب واقفاً وتلاه الجميع ، فصافحهم مودعاً ، وخرج من الشقة ، إلى المصعد ، ومنه إلى السيارة ، كان السائق بانتظاره فتح الباب الخلفي له بوقار شديد ، بينما حرسه يستعد للتحرك في سيارة أخرى ، وما أن أغلق باب السيارة ، وقبل أن يدور السائق حول السيارة ليستقلها ، دار محرك السيارة ، وسكرت كل الأبواب بإحكام ، فزع الجميع فزعاً شديداً ، وراح صفوت يلتفت حوله وهو في غاية ما بعد الرعب ، ولا يستوعب ما يحدث حتى مرقت السيارة بدون سائق تنهم الاسفلت نهماً ،و تتفادى السيارات الأخرى ببراعة بالغة ، وخلو الشوارع في ذلك الوقت من الليل ساعدها في الوصول سريعاً إلى مبتغاها، حيث دخلت إلى مرآب كبير ، أسفل عمارة كبيرة ، من فتحة متوسطة ، وكان الظلام حالكاً ، توقفت السيارة ، بينما صفوت يواصل صراخه ، واستغاثته بكل أحد إلا الله ! أطفأت السيارة  أنوارها ، وأصبحت العتمة مستحكمة ، وفتحت أبوابها الموصدة ، يسرع صفوت بمسك الموصد ويفتح الباب وينزل من السيارة زاحفاً على الأرض ، وإذا برجل من خلفه يسأله بصوت جاد :
- لماذا حاولت اغتيالي يا صفوت ؟  ألا تخجل من فعل الجبناء ؟ هل اسلامك أمرك بذلك ؟
يلتف صفوت سريعاً وهو في حالة ذهول كاملة كأنه يقابل ملك الموت ، ويتلعثم ، ثم يقول بصوت مهتز وهو يتصبب عرقاً :
- أنا أقر لك بخطأي ، وأعتذر لك  عن ذلك ، وأعدك أن لا أعود لها ابداً !
فجلس المتحدث القرفصاء ودنا برأسه من رأس صفوت متسائلاً بنفس الجدية :
- وصفقة الأسلحة الجديدة القادمة إليك من روسيا .
فيصيح مقسماً بالله نافياً صلته وجماعته أو حتى أي جماعة أخرى يعرفها بهذه الصفقة تماماً ، وهنا تضاء أنوار المرآب ، ويمسك أحمد بيد صفوت شبه الميت ويوقفه على قدميه ، بينما أفراد المجموعة يسرعن بتفكيك أجهزة تحكمهم من السيارة وما هي إلا ثوان معدودة حتى فرغن ،  ولكن فرغ معهن صفوت الذي خر مغشياً عليه .
( 31 )
وفي صباح اليوم التالي ، بأحد غرف المستشفيات العامة ، حيث صفوت المنوم بدأ يستفيق ولم يجد بجانبه غير الطبيب ، وممرضة ، وأحمد . فنظر إليه مستغرباً ومتسائلاً :
- كان بإمكانك تركي للموت بنوبة السكر هذه ؟
يشعر أحمد بالخجل ويضع وجهه بالأرض والدموع تلمع في عينيه قائلاً :
- لو علمت إنك مريض بالسكري لما فعلت معك ذلك ... وأطلب منك العفو .
تغمر صفوت مشاعر ندم جياشة تدفع دموعه خارج عينيه ويرد قائلاً :
- أنا من سعيت لقتلك ! وأصبت صديقتك في مقتل ! وأنت من أنقذني ! وكان بإمكانك تركي بلا مسائلة وتطلب مني العفو ... أي نوع من الرجال أنت يا سيدي !!
فينظر له أحمد وهو يجفف دموعه بيده قائلاً :
- أنا إنسان يحب الخير ، ويسعى إليه ، إلهي في السماء واحد ، ورسله كلهم عندي سواسيه ، ودينه عندي واحد ! أسعى لعالم بلا حدود ، وإنسان بدون جنسية .
ويمسك صفوت بيد أحمد وهو يقول :
- مرني يا سيد أحمد وأمرك مجاب ؟! أريد أن أرد جميلك !
فيمسك أحمد بيده وهو يبعدها عنه ويعيدها لطرف الفراش وهو يقول :
- فقط لا تدعني أراك مرة ثانية ... انا أكرهك كما لم أكره أحد من قبل !
وهز صفوت رأسه موافقاً وهو في غاية الأسى واستدار أحمد لينصرف بينما عائلته تدخل الغرفة وهو يصيح والبكاء يكاد يمنعه قائلاً :
- يا سيد أحمد أليس هناك أي أمل في أن نصبح أصدقاء يوماً ما ، فمثلك لا يتجنبه إلا ظالم !
وهنا يعلو صوت أحمد في الممر وهو يزلزل المستشفى كأنه يخاطب العالم قائلاً :
- طهر قلبك ، أنر عقلك ، سلطن ضميرك ، واغسل يدك من دماء ضحاياك ،  ستجدني أوفى الأصدقاء !
ويرد صفوت بنفس الصوت المزلزل الذي لا يزال يجهش في البكاء بينما أسرته مستغربة وهو يقول :
- سأفعل ، والله لأفعل !
ويحتضن صفوت أسرته كأنه اول مرة يراها ، بينما أحمد يستقل سيارته بصحبة سارة .
( 32 )
وواصلت الفرقة بحثها على أمل أن تعثر على طرف خيط يدلها على ماهية تلك العملية ، هدفها ، وزمنها ، ومن سوف يقوم بها ؟! تنكروا في أزياء رجالية مختلفة ، وراحوا يسيحون في كل ارجاء مصر ، من القاهرة إلى رأس البر ، ومن رأس البر إلى رشيد ، ومن رشيد إلى السلوم ، ومن السلوم إلى العوينات ، ومن العوينات إلى وادي حلفا ، ومن وادي حلفا إلى حلايب ، ومن حلايب إلى السويس ، ومن السويس عبروا القناة إلى طابا ، ومن طابا إلى رفح ، ومن رفح إلى القنطرة شرق ، رحلة طويلة شاقة ، استغرقتهم اسبوعاً كاملاً وهم لا يعثرون على شيء ، وبينما يركنون سيارتهم وهم متنكرون جميعاً في زي رجال من البدو أمام أحد المقاهي بمدينة القنطرة شرق كانت هناك حافلة تركن بجوارهم مكتظة بالعمال ، لا يبدوا على أياديهم أي علامات للخشونة ، وتلمع في عيونهم عدوانية شديدة ، جلسوا على المقهى يرقبون ويحتسون  أكواباً ثقيلة من الشاي ، بينما ينادي المؤذن لصلاة الجمعة من زاوية صغيرة وقريبة من المقهى ، فسعى الجميع إلى الصلاة ومن ضمنهم أحمد وفريقه ، ولما فرغوا من الوضوء ودخلوا لمحل الصلاة سمعوا غمغمات ، فاقترب أحمد من المؤذن وسأله عن الأمر ، فأخبره أنه لا يوجد خطيب للجمعة ، فأشار أحمد بخبث شديد ‘ إلى هاجر وهو يقول بصوت مرتفع :
- إن السيد أحد الدعاة في أمريكا ، وهو أنسب من يخطب فينا الجمعة .
وهنا هز كل من في المسجد رؤسهم بالموافقة ، وراح المؤذن يدعوا هاجي المتنكرة في زي الرجال لصعود المنبر بترحاب شديد ، بينما هاجي ضاعت بوصلتها ، وشعرت بدوار مفاجيء، ولكنها لملمت أشلائها ، وراحت تصعد درج المنبر بحذر شديد ، وقعد أفراد الفريق متجاورين ، متحمسين ، متشوقين لرؤية هاجي في هذا الموقف العصيب . ساد صمت مطبق ، وتشخيص مطلق نحو الخطيب الذي تنحنح ثم راح يقول بصوت خاشع ودمع هادر  :
- هناك بنت اسمها هاجر ، هاجرت أمها المصرية ، وأبوها اللبناني إلى أمريكا منذ عشرات السنين ، كانت حياتها طبيعية ، تتلقى دروسها ، وتحلم بمستقبل باهر ، حتى تحطمت كل أحلامها لما استشهدت والدتها في أول طائرة اصدمت ببرج التجارة العالمي ، واستشهد والدها في أحد مكاتب الطابق الخمسين بنفس البرج الذي اصدمت به الطائرة ؟! كانت صدمتها عظيمة ، ونكبتها كبيرة ، ومستقبلها أصبح مجهولاً ، لم يعد يحركها غير شهوة الإنتقام ، وغريزة البقاء ، أصبح سفك الدماء وقودها ، وإزهاق الأرواح عملها ، تطوعت في الخدمة العسكرية ، وحاربت في أفغانستان ، وقتلت الكثير من النساء والأطفال لتشفي غليلها ممن قتلوا والديها ، ثم انتقلت للعراق وراحت ترتكب من الجرائم ما يندى له الجبين ، وهي معتقدة إنها تنتقم ،  ولكن فجأة تفجر من هاجر المنتقمة بئر الضمير تحت أقدام رجل عظيم ، كما حدث لهاجر الأولى في وادي مكة ، وقررت هاجر أن تكون نفسها ، ولا تتصدى للجريمة بجريمة مثلها ، قررت هاجر أن تكون خادمة في بلاط الإنسانية ، ليس لغاية أو طموح ، وإنما لخدمة السلام وأمن البشرية.
وتوقفت هاجر عن الكلام ، بينما ينتحب الرجال ، ومن هن متنكرات في زي الرجال ، حتى هبطت من على المنبر ، وراحت تؤم الجميع للصلاة ، وتترقرق في عينيها دموع الخشوع ، وبصوت خشن مصنوع أدت الصلاة حتى انتهت منها فاندفع المصلين نحوها يطلبون بركة الإمام ويسألون عن هاجر وما انتهت إليه وهم يمتدحون خطبة الإمام ، وبعد قليل خرج المصلون الواحد تلو الآخر ولم يبق غير الفريق ، يسود بينهم سكون مهيب ، حتى تنحنح أحمد قائلاً :
- مرحباً بالإمامة هاجر !
فارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة ، تلاه ابتسامات على شفاه الجميع ،  فقالت سارة بصوت خفيض :
- سوف نثأر لكي من هذا الشرير !
فتلتها مريم قائلة :
- وإني لأرى الثأر قادم عن قريب !
فتلمع في عيني هاجر ومضات الخجل ، ووضعت بصرها في الأرض صامتة وتصيح ماريا قائلة :
- سوف نبقى متنكرات حتى نشهد على عقد القران !
فصرخت هاجر وهي تهب واقفة   من قعدتها وتشير لنفسها مداعبة  قائلة :
- وهل يتزوج الرجال بالرجال  أيتها البلهاء ؟!
فضحك الجميع ضحكات عالية وهبوا واقفين خارجين من المسجد .
( 33 )
في أحد أحياء القاهرة الفقيرة ، وفي آخر ساعات الليل المقيتة ، يخيم الظلام ، وينتشر الأشرار ، تسير امرأة منتقبة متشحة بالسواد في أحد الحارات الضيقة ، بخطوات رجالية واضحة ، حتى تدخل من أحد الأبواب ، إلى بيت منكس يكاد أن ينهار ، تدق الباب بخشونة واضحة ، ولما ينفتح الباب تندفع إلى الداخل كأنها مداهمة .
( 34 )
انعقد اجتماع طاريء بالقصر الجمهوري بالقاهرة ، يضم القيادات الأمنية بالدولة بقيادة الرئيس ، ويراقبه من قريب جداً السيد صفوت وبجواره المخبر العام للجماعة العنصرية ، وذلك كله لمناقشة تقرير رفعه أحمد إليه يحذر فيه من عملية ارهابية وشيكة ويطلب الدعم من كافة الأجهزة والمؤسسات بالدولة ، وكان الرئيس مستهتراً بالأمر ولا يقدره حق قدره ، بالرغم من ثناء مدير الجهاز عليه ، ولكن وزير الدفاع كان مستاءاً من تلميحات التقرير لضعف مستوى التأمين داخل وحدات القوات المسلحة ،  وإمكانية اختراقها بسهولة ، إلا أن وزير الداخلية أكد على بعض تقديرات التقرير ونفى بعضها ، وبقى الخلاف حول اتخاذ القرار ، فاستأذن صفوت من فضيلة المخبر واقترب من مائدة الاجتماع ووقف بجانب الرئيس الذي وقره بالوقوف أيضاً ، فهب الجميع واقفين ليقول بحسم :
- إن السيد أحمد ضابط كبير ومخضرم ، ولا يمكن أن يغامر بمصداقيته في أمر جلل مثل هذا ، ونحن جميعاً تهمنا مصلحة الوطن ، لذلك علينا منحه ما يطلب ، بدلاً من الندم على عدم فعل ذلك بعد فوات الأوان !!
كاد المخبر أن ينفجر غضباً ، وترنح الرئيس من موقف صفوت المستغرب والغير متوقع ، وساد ارتياح بين المجتمعين لما نطق به صفوت حتى قال الرئيس :
- حسناً سوف نمنحه الصلاحيات التي يطلبها ، ونحمله ايضاً المسئولية كاملة عن أي عمل ارهابي يمكن أن يهدد أمن البلاد .
وتنفس صفوت الصعداء وهو يربت على كتف الرئيس تقديراً لقراره .
( 35 )
وبينما أحمد في مكتبه يتلقى الأخبار السعيدة ، ويعبر عن دهشته من موقف صفوت الداعم له ، لفت انتباهه تناقل وكالات الأنباء لمشاهد قصف بعض الشاحنات بالعراق ، وسوريا بطائرات وكالة المخابرات الأمريكية بدون طيار ، استنكر بشدة وبدا عصبياً ولملم حاجياته من على المكتب وأسرع خارجاً من المكتب ، بينما هاجر كانت تناقش مدير الوكالة عبر مهاتفة مرئية وتعبر له عن استيائها من تجاهلها ، ويؤكد لها المدير أن الأمر قد تم حسمه على المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض بقرار من الرئيس شخصياً ، وأكد لها أن الوقت قد بدأ ينفذ منها وعليها أن تنهي مهمتها قريباً وتعود إلى الديار ! ولما انتهت المهاتفة صرخت بقوة وهي ترمي جهازها اللوحي ليصطدم بالجدار وهي تقول :
- أغبياء ، إنكم مجموعة من الأغبياء ، لقد قطعتم  خيطاً رفيعاً كان سيوصلنا حتماً لشيء ما !!
( 36 )
وبينما يسير أحمد بسيارته قريباً من الجهاز ، تؤشر له أحد السيدات  بإلحاح شديد ليتوقف  ، يستجيب أحمد وينحرف بسيارته جانباً ويتوقف ، تسرع السيدة المنتقبة بالركوب وقد عرفها ، ألقت عليه التحية وقالت بسرعة :
- لقد زارنا زوجي أول أمس ، ويبدوا أن هناك مأساة جديدة يعد لها !
تحرك احمد بسيارته مسرعاً وقد بدا عليه الاهتمام ، فنظر إليها لتواصل :
- لا أعلم شيئاً محدداً يا سيدي ، لكن أنا واثقة مما أقول ! هناك كارثة سوف تحدث قريباً !
حاول أحمد أن يطمئنها لكنها تقاطعه قائلة :
- عدني يا من سترتني أن لا تقتل من فضحني ... ولكنه زوجي وأبو أولادي !
وتجهش في البكاء الشديد ، يحاول أحمد أن يهدأها من جديد ، وتأثر بشدة لموقفها العصيب ، وقدر كثيراً ما تقوم به من تضحية من أجل الجميع ، ولما هدأت قليلاً راحت تقول :
- هذا رقم جوال أعطاه لي حتى يتواصل معنا عليه ، وقد حدد لنا موعد تسلسلي كل يوم لتركيب الشريحة عند موعد المهاتفة ، وخلعها فور الانتهاء !
هز أحمد رأسه وقد فهم ما قصدت ، ثم طلبت منه التوقف وهي تقبض على يده قبل نزولها قائلة :
- أعانك الله على ما وعدت ، ونصرك على ما قصدت !
وترجلت مسرعة وهي مرتبكة وخائفة ، بينما يواصل أحمد سيره وقد أثارت المرأة إعجابه ، وراح يفكر فيما هو قادم وسط فسحة من الوقت وسط زحام القاهرة وقت الظهيرة ؟!
( 37 )
حاول أحمد عدة مرات مهاتفة هاجر لكنها لا ترد ، وكانت متقوقعة على نفسها في غرفة بأحد الفنادق الكبيرة بوسط القاهرة ، وقد غزاها يأس شديد من فعل رؤسائها بها ، وراحت تحتسي  شتى أنواع الخمور ، و تتناول شتى أنواع المخدرات لكي تعاقب نفسها بنفسها وعن نفسها ، وحاولت سارة مقابلتها لكن دون جدوى ، ونجحت مريم في مكالمتها ولكنها فشلت في إقناعها بالعودة ، وأخيراً تمكنت ماريا من دخول غرفتها واستقبلتها وهي تتهاوى من قلة النوم ، وكثرة التفكير ، واستحكام اليأس . حاولت ماريا التخفيف عنها دون جدوى ، فانصرفت وهي تشفق عليها .
( 38 )
في الموعد المحدد للمهاتفة من أمجد اجتمع الفريق في غرفة التحكم ، وقد تحفزوا بأجهزتهم الدقيقة لرصد موقع المكالمة ، ولما رن جوال زوجته بدأت عملية الرصد ، وفي ثوان معدودة تمت عملية تحديد الموقع إنها القنطرة شرق ، وهنا صاح أحمد متجها نحو جهاز تعقب كبير ليرصد شيئاً ما قائلاً :
- لم يكونوا عمالاً ، أنا واثق من ذلك !
استغربن الفتيات  سلوكه ، ولكنه أخبرهن بإنه وضع  جهاز تعقب صغير في واقي الحافلة عندما اشتبه بركابها وهاهي النتائج نفس الموقع لأمجد والحافلة معاً ، وهنا تستنتج سارة قائلة :
- إذن العملية ستتم في قناة السويس !
وتواصل مريم قائلة بحسم :
- وجسر السلام هو الهدف !!
فتقاطعها ماريا قائلة :
- أو ربما شيء يمر من أسفله !
وهنا يصرخ أحمد قائلاً :
- الهدف سفينة وعلى الأرجح ستكون قطعة حربية من الأسطول الأمريكي !
وامتقع وجه الفتيات فلم يخطر بخيالهن أن تكون هذه العملية بتلك الخطورة ، وهنا جمع أحمد أشيائه وأراد أن يذهب إلى هاجر ، وما كاد يفتح الباب حتى تزلزلت الأرض بفعل انفجار قوي وضخم ، ارتمى الجميع على الأرض من الفزع ، لكن الغرفة أسفل الأرض بنفس العمارة التي يسكنونها ، وهي محصنة بالكامل فلم يصبهم أذى ، ولما خرجوا لتفقد آثار الانفجار وجدوا مأساة كاملة ، عدة عمارات منهارة تماماً ، عشرات الجثث منتشرة بالشارع ، أشلاء متقطعة على الاسفلت ، غبار كثيف من فعل الانهيارات الخرسانية الشديدة ، عويل ، ونحيب ، ورائحة الموت في كل مكان ، فأوصى أحمد رفيقاته بعمل اللازم ومهاتفة هاجر لتحذيرها من المداهمة المتوقعة ، وراح يركض هو في اتجاه الفندق الذي تسكنه ، بينما مجموعة مسلحة تتسلل إلى الفندق متخفية ، وهاجر لا تزال نائمة تتقلب على فراشها ولا تستجيب لرنين جوالها ، المجموعة تقف أمام المصعد ، بينما أحمد لا يزال يركض بكل ما أوتى من قوة ، تصعد المجموعة المصعد وتضغط على زر الطابق المستهدف ، بينما أحمد يصل إلى الفندق ويتجه إلى الدرج ويصعده بنفس القوة والنشاط ، بينما المصعد يتوقف وينفتح الباب ، بينما هاجر لا تزال تتقلب غير واعية بما يحدث حولها وأحمد لا يزال يصعد الدرج بأقصى ما يستطيع من سرعة ، تسير المجموعة في الممر وقد بدأت تخرج مسدساتها وتركب كواتم الصوت ، وصل أحمد أخيراً إلى نفس الطابق ، وبينما المجموعة تحاول فتح الموصد ، صرخ قائلاً وهو يركض نحوهم  :
- استيقظي يا هاجر ...
وما هي إلا طرفة عين حتى وصل إليهم ، واشتبك معهم بخفة رائعة ، أسقط أسلحتهم الواحد تلو الآخر ، ثم راح يكيل لهم الركلات ، واللكمات حتى سقطوا مغشياً عليهم ، وهنا فتحت هاجر الباب لتجد نتائج معركة سريعة خاضها أحمد منفرداً ، بحلقت مستغربة ، فنظر لها أحمد ليقول مداعباً وهو يكاد يلتقط أنفاسه :
- خدمة الغرف تحت أمرك يا سيدتي !
ترتسم على شفتيها ابتسامة بينما يجذبها من يدها ليدخلا الغرفة ، ويأمرها بجمع أغراضها الضرورية فوراً ، وفي يده الأخرى جواله يتحدث فيه لأحد الضباط يخبره بما حدث ويأمره بالحضور ومعه الدعم  للقبض على المجموعة ،  وبينما هاجر تجمع أغراضها تصيح فيه قائلة :
- لماذا تفعل ذلك ؟ أنا لا أستحق منك هذا الاهتمام ! أنا امرأة سيئة !
وهنا هدأ أحمد وراح يمسح عرق جبينه بأطراف أصابعه وهو يتنهد قائلاً :
- ولكني أحبك
تصرخ فيه غاضبة :
- لقد عرفت رجال بعدد شعر رأسي !
فيرتمي أحمد على طرف الفراش محاولاً أن يلتقط المزيد من أنفاسه قائلاً :
-هذا ما يفتخر به الرجال ، ولكنهم ينكرونه على النساء !
وبينما تضع أغراضها في الحقيبة وتكاد تغلقها تقول بأسف :
- أنا فاشلة يا أحمد !
وهنا اقترب أحمد منها وهو يجذب رأسها إلى  صدره بحنو بالغ  وراح يتحسس شعرها برقة متناهية وهو يقول :
- إذا كنت تقصدين الترقية ، والتكريم ، والحصول على وسام يعلق على الجدار فهذا هو الفشل ، أما النجاح الحقيقي فهو أن نقوم بعمل جليل يتحدث عنه كل العالم دون أن يعرفوا من قام به ، لكن هذا العالم يبقى يقدر هذا ويحترم من قام به !!
وهنا تهدأ هاجر وتشعر بقشعريرة تسري في جسدها لتقول بصوت مستح  خفيض :
- أنت لست الرجل الأول في حياتي !
فيمسك أحمد برأسها ويضعها بين كفيه ، أمام عينيه ليقول :
- ما يهمني أن أكون الرجل الأخير !
ثم ينظر لها بإعجاب شديد ، وتبادله نفس النظرة وبدون أن يدريا راحا يدنوان من بعضهما حتى تلامست شفتيهما وهما يتبادلان قبلة عشق رائعة وهو يتحدث بفمها قائلاً :
- هل تقبلين الزواج بي  ؟
فترد عليه من فمه قائلة :
-   قبلت !
وإذا بأحد الضباط يفسد لحظتهما  بنحنحته الخجلة ، وهنا تداركا نفسيهما واعتدلا سريعاً ، وهنا قال الضابط :
- موساد يا سيدي !
وهنا قهقه أحمد وهو يخرج بهاجر مسرعاً من الغرفة قائلاً :
- كنت أنتظر ظهورهم ! واستغرب تأخرهم !
ووجه الضابط إلى ايقافهم ، واستعار منه سيارته وراح يركض وهو يجذب هاجر من يدها  نحو المصعد .
( 39 )
تداعى إلى موقع الحدث مئات الاعلاميين بأجهزة البث المباشر ينقلون مشاهد المأساة الدموية بالقاهرة ، بينما يصل أحمد بسيارته ويترجل منها راكضاً صوب عضوات فريقه تاركاً هاجر تجري بعض التحريات ، ولما التقوا وسط الحركة الكثيفة من رجال الانقاذ ، ودوي صافرات عربات الاسعاف ، قال لهن أحمد بصوت مرتفع وسط الضوضاء :
- الموساد !
فصاحت سارة :
- ايران !
فبحلق فيهن مستغرباً لتواصل مريم وهي تلوح له بلوح معدني من آثار الانفجار مسجل عليه رقم :
- هذه المتفجرات بيعت للحرس الثوري قبل عدة سنوات ومصدرها كوريا الشمالية !
وفجأة تشعر ماريا بهياج  وراحت تصرخ :
- ماذا يحدث ؟ أنا لم أعد أفهم شيئاً ! ما ذنب هؤلاء الأبرياء ؟!
وهنا التف حولها الجميع وضمها أحمد إليه وهي تجهش في البكاء بينما تقترب هاجر على استحياء وتقول :
- لقد ألغوا مهمتي ، وقطعوا التواصل معي !
فنظر الجميع لها متسائلين لتواصل :
- هذا يعني أنهم قرروا تصفيتي ؟!
وتزداد دهشة الجميع مما يسمعوا لتواصل بشيء من التفاؤل :
- ولكني عرفت هدف العملية !!
فنظروا لها جميعاً بشغف وإلحاح لتواصل :
- حاملة الطائرات ( جورج بوش ) إنها تمر من القناة الآن عند منطقة ( البلاح )
فيصيح أحمد وهو يركض نحو السيارة :
- ليس أمامنا وقت طويل .
ويأمرهن بالاستعداد للعملية فوراً ، بينما يستقل سيارته وهو يهاتف مكتب وزير الدفاع ويطلب موعد عاجل معه .
( 40 )
وفي القصر الرئاسي كانت تدور مشاجرة لفظية عنيفة بين المخبر العام للجماعة العنصرية ، والسيد صفوت ، بحضور الرئيس بسبب الانفجار الاجرامي ، كان صفوت ينتقد بشدة ، بينما المخبر العام يدافع بشدة ويؤكد حرصه على التخلص من هذا الفريق الخارج عن نطاق السيطرة ، ويتهم الرئيس السيد صفوت بتأثره بالسيد أحمد ، ويؤكد المخبر العام ذلك ويضيف أنه غير الكثير من الخطط منذ عرفه ،  ولما يتساءل صفوت عن الأبرياء الذين سقطوا ،  يدافع المخبر عن موقفه بأنهم شهداء لخطة التمكين التي ستقيم دولة الخلافة ، فيضحك صفوت ساخراً وهو يغادر وعندما يستفسرون منه عن وجهته ، يشيح بوجهه عنهم ، ويشير لهم بيديه صائحاً :
- أنا بريء منكم ، وبريء مما تفعلون ، أنا خارج نطاق السيطرة !
فشعرا المخبر العام والرئيس بارتباك شديد وراحا يتشاوران في مصير صفوت بحسم شديد .
( 41 )
ويصل أحمد إلى وزارة الدفاع ، وراح يركض نحو مكتب الوزير الذي كان بانتظاره بصحبة قادة القوات والأفرع الرئيسية ، ألقى عليهم التحية ثم راح يسرد عليهم ما لديه من معلومات ، ويشرح ما يجول بخاطره من توقعات حول هجوم اسرائيلي وشيك يكون مبرره انقاذ حاملة الطائرات ، ينتهي باحتلال سيناء ! وهنا قهقه وزير الدفاع ساخراً ، وراح يعبر عن ضيقه من أحمد ، وتدخله الفج في عمله ، ثم صاح على أحد ضباط الشرطة العسكرية آمراً إياه بتوقيف السيد أحمد ، وسادت حالة من الاستغراب الشديد على وجوه الحاضرين ، بينما ضابط الشرطة العسكرية يتقدم نحو أحمد بارتباك شديد ، وتعلوا وجهه ملامح الغضب والاستنكار الشديد ، ولما أصبح الضابط في مواجهة أحمد سأل بصوت جهوري مرتفع :
- ماذا فعل السيد أحمد حتى أقبض عليه يا سيدي ؟
فيصرخ فيه الوزير بكبرياء شديد وهو يوبخه قائلاً :
- نفذ الأوامر أيها الغبي ! ولا تطرح أي أسئلة .
وإذا بالضابط الشاب يحسم قراره ويؤدي التحية العسكرية للسيد أحمد بوقار شديد وهو يجهر قائلاً :
- مثلك لا يوقفه إلا ظالم !
ثم استدار نحو الوزير واشهر سلاحه في وجهه قائلاً :
- أنت الموقوف يا سيدي ، وإذا لم تطيعوا هذا الرجل سأطلق الرصاص عليكم جميعاً
وهنا أسرع أحمد نحو قائد الدفاع الجوي وهو يقول متوسلاً :
- مر قواتك بالتحرك نحو المواقع التي حددتها لك ، وافرض حالة الطواريء القصوى بعد غلق المجال الجوي ، إن الوطن لن ينسى لك هذا الموقف الجليل !
وهنا هب القائد واقفاً وأسرع نحو الهاتف ليصدر أوامره لقواته بالتحرك ، بينما وزير الدفاع يستشيط غضباً ، ويتصبب عرقاً ، وقد بدأ القادة يميلون الواحد تلو الآخر نحو الاستجابة لتوقعات السيد أحمد ، وقد عرضوا عليه المساعدة ، وأكدوا له كامل اخلاصهم في تقديم الدعم والمساندة لخطته ، وراح أحمد يشرح لهم ، ولما فرغ انصرف كل واحد منهم نحو مكتبه ليؤدي دوره في الخطة ، وانصرف من خلفهم أحمد وهو يربت على كتف الضابط الشاهر سلاحه ، وهو يشد من عزيمته ويوصيه بعدم اطلاق سراح ذلك الغبي إلا ميت ، وهز الضابط رأسه موافقاً ، بينما الوزير بقى وحيداً معتقل في مكتبه ومن أحد ضباط حراسته !!
( 42 )
تقترب حاملة الطائرات من جسر السلام وقد بدأت تبطيء من حركتها كأنها وحش ضخم يدنو من نهايته ولما طالت مقدمتها أحد اطراف الجسر توقفت تماماً ، الماء متمدد ، والهواء متغبر ، والشمس تتنفس ، والعصافير بدأت تصحوا وتزقزق ، كل شيء في المكان لا يوحي بأي شيء ، وإذا بقافلة من عشرات السيارات تعربد على الجسر من الناحية الشرقية منطلقة نحو وسطه ، تقابلها قافلة أخرى تزمجر على نفس الجسر من الناحية الغربية وهي منطلقة نحو منتصف الجسر ، وإذا بعشرات المظليين يهبطون من السماء كالملائكة على سطح حاملة الطائرات معظمهم ينتشرون ويحتلون ، وقلة منهم ألقوا بسلالم خشبية من جميع أطراف الحاملة الأربعة ليصعد رجال الضفادع البشرية ويزيدوا من قدرة المظليين على الحاملة ، ولما التقى الجمعان عند منتصف الجسر ارتبك أمجد ورجاله وراح يقلب وجهه في السماء ، فما كان يبحث عنه قد أسقطته وسائل الدفاع الجوي بمهارة فائقة جعلت مجلس الحرب الاسرائيلي يوقف العملية من شدة رعبهم وعجبهم من قدرة القوات المصرية على الردع ! وهنا حامت حول الجسر عدة عموديات مقاتلة مجهزة بصواريخ مدمرة لنسف أمجد وأعوانه إذا لزم الأمر ، وأخيراً اقترب زورق حربي صغير من الناحية الشمالية  على سطحه أحمد وفريقه وهو يمسك بيده مكبر للصوت وهو يصيح :
- استسلم يا أمجد لقد فشلت خطتك ، الحاملة آمنة وهي في أيدينا ، وأنت محاصر من جميع الجهات .
وما كاد ينتهي حتى أحاط بقافلة أمجد قافلة أخرى من رجال الصاعقة ، فازداد ارتباكه ، وراح رجاله يطالبونه بالاستسلام ويلقون بالأسلحة الواحد تلو الآخر ،
وهنا شعر أمجد بإحباط شديد فأمسك بسلاحه وقبل أن يلقيه على الأرض صاح قائلاً
- يا سيد أحمد نستسلم مقابل محاكمة عادلة ، ولا تسلمونا إلى الأمريكان !
فرد عليه أحمد مسرعاً :
- لك هذا يا أمجد ... وأزيدك إن استطعت !
فرمى بسلاحه ورفع يداه مثل بقية أتباعه فانطلق رجال القوات المسلحة يلقون القبض عليهم بسرعة فائقة ، بينما الباقين يهللون ، ويطلقون الرصاص ابتهاجاً ، وأحمد وفريقه يتبادلون الأحضان الحارة فرحة بانتهاء عملية نظيفة ، ونصر مبين شريف ومستحق .
( 43 )
وعلى متن حاملة الطائرات كانت الاسعافات الطبية تتم للطاقم بالكامل من آثار مواد منومة تم وضعها في مأكلهم ،  ومشربهم ، وفي مبرد الهواء المركزي ، قام بذلك أحد ضباط الصف المشكوك في ولائهم ، والمستعمل من قبل جهاز الموساد ، ولما بدأ يستفيق الجميع وأدركوا ما كان سيحل بهم التفوا حول هاجر وراحوا يحملونها على الأعناق ويجوبون بها سطح حاملة الطائرات جيئة وذهاباً ، ثم حملوا بقية الفريق الواحد تلو الآخر بما في ذلك أحمد ، وأخيراً حملوا الجنود المصريين وضباطهم وضباط صفهم بفرحة عارمة وتلاشت الخطوط الحمراء ، وذابت الجنسيات ، وتلاشت العرقيات ، شعور انساني بفطرة سليمة هو ما سيطر على سطح حاملة الطائرات وما عليها من بشر ! واقترب قبطان الحاملة من هاجر وأدى لها التحية معبراً عن سعادته وفخره بها ، ثم دنا من أحمد وعانقه بشدة وبعاطفة جياشة راح يقول :
- يا سيد أحمد إنني أعجز عن شكرك ، و يمكنك أن تعتبرني صديقك المخلص من الآن ، وأنتظر زيارتك لمنزل عائلتي قريباً حتى أعرفك على أطفالي الصغار !
ويقبل أحمد الدعوة بحضور فريقه ، فيبدي القبطان امتعاضاً وهو يحصوا الأعداد ، فيضحك الجميع ضحكة رنانة ملؤها التفاؤل والابتهاج .
( 44 )
وتنبه سكان مدينة  القنطرة شرقها وغربها لما يحدث في القناة ، وتسربت أخبار حاملة الطائرات التي كادت تختطف ، والغارات الجوية الإسرائيلية التي تصدت لها قوات الدفاع الجوي وأسقطت طائراتها ، فابتهج الناس كما لم يبتهجوا من قبل ، وراحوا يحتشدون أفواجاً على ضفتي القناة ، وهم يهتفون للوطن ، وينشدون للحرية ، ويحيون رجال القوات المسلحة ، ويودعون حاملة الطائرات التي بدأت تتحرك مواصلة رحلتها وهي تطلق نفيرها تحيي الشعب والجيش ،  بينما أحمد يلوح مودعاً صديقه القبطان وبجانبه فريقه تصل السفيرة الأمريكية مهرولة بسيارتها الفاخرة ، وتترجل مسرعة نحو هاجر وتعانقها بحرارة وهي تقول :
- أنت بطلة يا عميلة هاجي ولا بد من تكريمك بما يليق ، لقد أنقذت كرامة الشعب الأمريكي ، وصنت شرف العسكرية الأمريكية .
وهنا تدفعها هاجر بأدب قائلة :
- يا جناب السفيرة أنا لم أكن وحدي ، والفضل يرجع لأصحابه السيد أحمد وفريقه !
وهنا تأوهت السفيرة بشدة وهى تبدي أسفاً شديداً وأشارت لحارسها الذي أعطاها ظرفاً مغلقاً راحت تفتحه بسرعة وهي تعطي ما بداخله لأحمد قائلة :
- سيد أحمد هذا خطاب شكر وامتنان من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية .
فأمسك أحمد بالخطاب ثم رماه في الهواء وهو يبتعد عن السفيرة قائلاً :
- لا تعتدوا فيعتدى عليكم !! هذا ما نريده من رئيسكم ولعله يفعل !
تصاب السفيرة بحالة من الذهول وتحاول هاجر تهدئتها بينما أحمد وفريقه يلمحون زوجة أمجد وأولاده يلحون في طلب رؤيته ، فيسرع نحوهم ، ويرحب بهم ، ويسمح لهم برؤية الرجل وهنا تمسك الزوجة بيد أحمد قائلة في فرحة عارمة :
- وعدت  وصدقت جزاك الله عني وعن أولادي خيراً !
ولما اقترب أمجد وهو يسير مكبلاً وسط الحراسة المشددة عنف أحمد الحرس وأمرهم بفك قيوده ، فامتن أمجد لذلك وراح يحتضن أولاده الواحد تلو الآخر وهو يجهش في البكاء ويطلب منهم مسامحته ، ثم عانق زوجته واعتذر منها عن كل ما بدر منه في حقها ، وعبر عن ندمه الشديد ، وهنا سأله أحمد بجدية :
- هل أنت نادم حقاً ؟!
فيؤكد أمجد ندمه ورغبته في التكفير عن خطاياه ، فيسأله أحمد ثانية بنفس الجدية :
- تعدني أن لا تقتل نفساً ، ولا تهتك عرضاً ، ولا تسرق مالاً
فرد أمجد مسرعاً :
- أعدك يا سيدي .
ثم واصل أحمد قائلاً وهو  يقف في مواجهته  :
- وأن تعترف بالحقيقة كل الحقيقة مقابل العفو عنك !
فيرد أمجد مسرعاً وهو يجهش في البكاء نادماً :
- أعدك يا سيدي !
فينظر أحمد إليه مشخصاً وهو يقول :
- أنتظرك غداً في الجهاز ومعك رجالك ، واذهب الآن مع أطفالك وزوجتك الطاهرة
فيستغرب الجميع حتى صاحت ابنة أمجد قائلة :
- وحاملة الطائرات التي اختطفها !!
فينحني أحمد حاملاً اياها على ذراعه وهو يصيح مثلها :
- وأين هي تلك الحاملة ؟!
فتبحلق له وهي تهز رأسها بعدم علمها ، ولكن علم كل من حوله بمقصده فراح أمجد يهلل ويبشر رجاله الذين هللوا وكبروا مثله ، وهنا حاولت السفيرة الاعتراض فمنعتها هاجر قائلة محذرة :
- إنه لن يتردد لحظة في اعتقالك بدلاً عنهم فاصمتي !
وهنا ينتاب السفيرة خوف شديد وترفع كتفيها قائلة وهي تنظر حولها و تبتسم :
- حسنا ً ... أنا لم أر شيئاً ! هل رأيتم أنتم شيئاً؟؟!!
وهنا ضحكت هاجر واتجهت نحو أحمد وعضوات الفريق وتأبطوا أزرعتهم حتى صاروا حبلاً معتصم .
وفي نهار اليوم التالي كانت أضخم عناوين للصحف :
حاملة طائرات توشك أن تختطف وتصبح رمزاً للسلام !
الشعب يجدد ثورته والرئيس يقدم استقالته .
أمريكا توبخ رئيسها وتقيل وزير دفاعها وتحاكم مدير مخابراتها وتعيد حساباتها تجاه العالم .
رئيس الوزراء الاسرائيلي متهم ووزير دفاعه مدان وانتحار رئيس جهاز الموساد !
تنظيمات ارهابية تغير مسارها إلى السلمية .
العالم يتحول إلى الأفضل تحت لوحة انسانية عظيمة عنوانها ( عالم بلا حدود .. انسان بدون جنسية )
انتهى
AK
فيلسوف القصة